هل الدّلافين كائنات ذكية؟

  • سامي مهني – مهندس رئيس في علوم البحار

الدّلفين كائن بحري من صنف الثّدييات ورتبة الحوتيات وهو من الحيتان المسننة. كما نجد أنواع من الدلافين تعيش في المياه الحلوة من أنهار كبيرة في الصين والهند وأمريكا اللاتينية

هناك 38 نوع من الدلافين في العالم وفي تونس وقع رصد 3 أنواع وهي 


– الدلفين الكبير  (Tursiops truncatus)
الدلفين الشائع  (Delphinus delphis)

ماهي علاقتنا به ؟

يعتبر الدلفين أكثر الحيوانات البحرية ارتباطا بالإنسان منذ العصور القديمة

ويعود اهتمام الإنسان بالدّلافين إلى قرون خلت حيث نجد صوره في الكثير من الآثار التّاريخيّة منها الفسيفساء والقطع النقدية والحلي والمزهريات والتماثيل لكثير من المملكات والإمبراطوريات عبر التأريخ والتي تبلغنا مدى عمق العلاقة بيننا وبين هذا الكائن العجيب

كان اريستوت (Aristotle)  أول من درس الدلفين في كتابه المعروف « عالم الحيوان » وكان أول من دون بطريقة علمية تصرفاته وتحركاته

و قد وقع ذكر الدلافين في الكثير من الأساطير اليونانية القديمة و من بينها

THETIS الآلهة اليونانية كانت تستعمله كوسيلة نقل

ARION عازف القيثارة اليوناني الذي وقعت نجدته من طرف الدلافين بعد ما رمي به في البحر

ARION

Poseidonكان يحمل بوزائدون صورة الدلفين

أبولون و ابنه إكاديوس وقعت نجدتهما من طرف الدلافين حتى شاطئ قرب قرية بارناس حيث شيد معبد دلفيس (APPOLON & ICADIUS)

من حوالي 2000 سنةفي مدينة هيبو ديارتوس وهي مدينة بنزرت شمال الجمهورية التونسية حاليا سمح دلفين لشاب ماهر في السباحة أن يركب ظهره وقام به بجولات في داخل البحر ثم يرجعه إلى الشاطئ

ويرى البحارة اليونانيين القدامى أن صيد الدلفين يزعج آلهتهم فيتركونه في سلام

الذكاء؟

« الذّكاء » مصطلح له العديد من التّعريفات والتّفسيرات ويصعب قياسه للبشر ناهيك للحيوان.

والمفهوم المتداول للذّكاء هو القدرة على التّفكير والتّخطيط وحلّ المشاكل والتّفكير المجرّد وفهم الأفكار المعقّدة والتّعلّم بسرعة (خاصّة من التّجارب) لكن هذا التّعريف لا يأخذ بعين الاعتبار بعض جوانب التّواصل الاجتماعي أو القدرة على تعلّم على أشياء جديدة

ويرجع الاهتمام العلمي بذكاء الدّلفين إلى ستّينات القرن الماضي وتحديدا عند ظهور العروض الترفيهية الحيّة فيما تسمى مسابح الدّلافين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة

منذ ذلك التاريخ بدأت تتضح معطيات هامة على حياة الدلافين منها انها اجتماعية بطبعها. وفي هذا المجال نرى مثلا أن أنثى الدلفين تعطي أبناءها لدلافين أخرى حتى تتمكن من الذهاب إلى الصيد وإنه عند الولادة تقوم أنثى أخرى بإعانتها. كما اننا الى اليوم مازلنا نقرا اخبارا من كل بحار العالم ان دلافينا انقذت بشرا من خطر الغرق او من هجوم قرش. وتوالت حكايات البحارة أن للدلافين مجموعة متنوّعة من استراتيجيّات الصّيد

لكن كل هذا لا يعتبر مؤيدا كافيا لنعت الدلفين بالذكي. دعونا نغوص أكثر فيما الت اليه البحوث والدراسات العلمية الأخيرة في هذا الموضوع

الدماغ؟

قد أثبتت آخر الدّراسات أنّ مخّ (دماغ) الدّلفين يشبه إلى حد ما المخّ البشري. فعند مقارنة حجم المخّ بحجم الجسم يكون مخّ الدّلفين أقلّ في كتلته من المخّ البشري لكن مخّه أكثر كثافة وتعقيدا ويحتل مساحة أكبر وهي خاصيّة قد تعوض مسألة صغر الكتلة إذ تؤثّر التلافيف في وظائف القشرة البروتينيّة وهي الطّبقة المتعلّقة بالتّفكير المعقّد والإدراك الذّاتي

خلايا Von Economo

وتسمى أيضًا الخلايا العصبية المغزلية، يرتبط وجودهم بارتفاع معدلات حجم المخّ على حجم الجسم.بالنسبة لبعض علماء الأعصاب، قد يرتبط بتطور السلوكيات الاجتماعية المعقدة والقدرات المعرفية والعاطفية

بحوث ونتائج؟  

في معهد دراسات الثّدييات البحريّة في ميسيسيبي وقع تمرين الدّلافين على المساعدة على نظافة المسبح إذ يلتقط الدّلفين قطعة الورق مثلا ويقدّمها للمدرّب الّذي يجازيه بسمكة. لكن الدّلفين كلي  طوّرت هذه اللّعبة وأصبحت تخبّئ الكثير من الأوراق تحت صخرة في قاع المسبح تلجئ إليها كلّما أرادت الأكل. وقد لاحظت ذات مرّة التقطت فيه عصفور بحري سقط في الماء أنّ المكافئة كانت كبرى ممّا جعلها تخبّئ سمكة من غذائها واستعملتها كطعم لاستدراج عصفور بحري وانقضّت عليه وبعد ذلك قدّمته إلى المدرّب الذي كافئها. لكنّها لم تقف عند هذا الحدّ فقد لقنت هذه الإستراتيجية المربحة لابنها الّذي بدوره نشرها عند صغار دلافين أخرى حتّى أصبحت اللّعبة المفضّلة للدّلافين في المعهد

في خليج شاركباي بغرب أستراليا لاحظ الصيادون أن بعض الدلافين شوهدت وعلى منقارها قطع من الإسفنج البحري وأظهرت سنوات من التتبع العلمي من طرف مختصين أن الدلافين تستعمل الإسفنج عند صيد السمك في الشعاب المرجانية لتخويف فريستها وحتى تجتنب أن تجرح فمها. وحاول الباحثون تفسير ذلك بمحيطها لكنهم لاحظوا أن دلافين أخرى من نفس المنطقة لا تستعمل الإسفنج. كما أدت الدراسات الجينية إلى أنه ليس هناك تطابق. لذا يبقى التفسير الوحيد المعقول وأنه شكل من أشكال الثقافة

وتتطرق العالم الأمريكي جون ليلي إلى إمكانية التواصل بين الدلافين والإنسان. وقد أثبتت بحوثه وتجاربه أن للدلافين نظام اتصالات مختلفة عن الذي يميز الإنسان ويعتبر جون ليلي من أول الباحثين الذين قاموا بتجارب لفك ألغاز نظام الاتصالات عند الدلافين الذي يعتمد على الزفير

وقد بينت آخر البحوث في هذا المجال بأن الدلافين تنادي لبعضها البعض بإرسال أصوات هي أقرب إلى الصفير الحاد بما أنها تفتقر إلى « الحبال الصوتية ». ويحاول الباحثون كسر شفرات هذه الأصوات لأنهم يعتقدون أن الدلافين تتنادى بأسمائها

وفي بحوث أخرى استعملت أجهزة إلكترونية قادرة على تحويل الصوت البشري إلى زفير وذلك لتقرب أكثر إلى الإمكانيات البيولوجية للدلافين

وأظهرت دراسات أنّ الدلافين يمكنها التعرف على أصوات زملائها بعد 20 سنة من الانفصال. وتعزو هذه الدراسات أنّ لهذه الثدييات البحرية أطول» ذاكرة اجتماعية« سجلت على الإطلاق في عالم الحيوانات. ويرى البعض من الخبراء أنّ هذا النوع من الذاكرة التي تعتمد على الذبذبات الصوتية تبقى مستقرة على مدى عقود أكثر من الذاكرة الصوتية التي يعتمدها الإنسان لأن ملامح وجهنا تتغير على مر الزمان

اكتشف فريق من العلماء من كلية سوثمبتون أنه يمكن للدلافين حل مشاكل في الرياضيات إذ أنه عند صيد مجموعات السردين مثلا يفجر ما يسمى بشباك من الفقاقيع التي تهدف إلى إرباك السردين وجعلها مجتمعة في شكل دائرة قرب سطح الماء لتسهيل عملية صيدها. لكنّ السؤال هو : »كيف للدلافين أن يرى فريسته بين شباك الفقاقيع؟ علما وأن التكنولوجيا المتاحة الآن للإنسان لا تستطيع ذلك« والجواب كان حقيقة مذهلة : أنّ الدلفين يعدّ النقرات الصوتية ما بين فقاقيع الهوى. وهذا يثبت أنه يمكنه أن يحل  عمليات حسابية معقدة لاخطية

إن السونار الحيوي الخاص بهم أفضل بكثير من الذي يصنعه الانسان حاليًا وهو مثال يحتذى به الصناعيون لتحسين تقنيات الموجات فوق الصوتية. وتشير استعمالات السونار الحيوي الخاص بهم إلى أنهم طوروا منذ الاف السنين، ذاكرة سمعية، وأنهم يتواصلون من خلال « صور سمعية » مجردة، وأنهم يدركون ما حولهم وبيئتهم من خلال « صور سمعية ثلاثية الأبعاد ». ويمكنهم رؤية داخل الكائنات الحية كما هو الحال في استعمال الموجات فوق الصوتية الطبية

ذكاء؟  

أكّدت الكثير من الدّراسات أنّ للدّلفين خصائص معرفيّة واسعة تقرّبه من الإنسان أكثر من حيوانات أخرى تعرف بذكائها النسبي كالشمبانزي مثلا. ويمكن اختزال هذه الخصائص في

1. التّمثيل العقلي والتّلاعب بالرّموز وفهم أنّ تلك الرّموز تشير الى أشياء ملموسة.

2.  استخراج قواعد عامّة ومفاهيم من أمثلة ونماذج.

3. القدرة على تفسير وعلى العمل على الصّور الّتي تمثّل الواقع بفاعليّة كبرى كما لو كانت تصوّر أحداثا من العالم الحقيقي.

4. الابتكار في السّلوكيّات والاستراتيجيات في وضع اعتباطي Arbitraire

 5. النّظرة الاجتماعيّة والوعي بسلوكيّات الآخر حتّى تقليدها بدقّة.

6. فهم ممنهج لتناغم الحركات سببها رمز.

7. حاسّة مرهفة لإشارات الإنسان والوعي بذاته الوعي بالتّماثيل العقليّة وسلوك ذاتي.

8. فهم الإشارات إلى أجزاء من جسده والقدرة على تصوّرهم أشياء يستطيع استخدامها في طرق جديدة حسب تعليمات الرّموز

9. قادر على ايجاد حلول خلاقة ومبدعة للمشاكل الّتي تواجهها. إنّ هذه القدرات العقليّة للدّلافين وقعت دراستها على نماذج مخبريّة و في مسابح صغيرة و مغلقة والتّحدّيات الفكريّة و التجارب الّتي استعملت على الدّلفين هي في الحقيقة لا تمتّ لواقعه بصلة حيث يعيش طليقا في البحار والمحيطات. لذلك فإنّ ما توصّل إليه الباحثون من نتائج يعتبر مرونة عقل للدّلفين، عقل يستطيع الفهم والتّكيّف والعمل بفاعليّة مع محيط غير الّذي ولد وعاش فيه

ويرى البعض أنّ للدّلافين قيم ومبادئ راقية ويدعو البعض إلى اعتبارها « أشخاص غير بشريّة » وجب تصنيفها على أنّها « أفراد » إذ أنّها تتمتّع بمشاعر إيجابيّة وسلبيّة وعواطف وشعور بالذّات وقادرة على التّحكّم في سلوكها. ولأن هذا المزيج من القدرات العقليّة والمشاعر يعتبر من الخصائص الّتي ينفرد بها الإنسان عن باقي الكائنات وقد طوّرها الدّلفين عبر 60 مليون سنة من التطور

إنّ الإنسان يعامل الحيوانات باحترام أكبر عندما يدرك أنّها ذكيّة لأنّه يستنتج تلقائيّا أنّها تتألّم وتشعر بالتّغيّرات من حولها

منذ 19 قرنا قال بلوتارخ الفيلسوف وكاتب السير بلوترك اليوناني عن الدلافين : »الدلفين هو الوحيد من دون كل المخلوقات الذي منحته الطبيعة ما يسعى إليه أفضل الفلاسفة : الصداقة من دون أي فائدة ترجى«  

لذا فالسؤال الذي يفرض نفسه هو : إذا ما تمكنا من التواصل مع الدلافين ماذا يمكننا أن نساله و ماذا سنتعلم منهم ؟ هل من الممكن للإنسان والدلافين العمل جنبا إلى جنب على قدم المساواة؟ لا. الدلافين ليس لديها  » الإبهام القادر على المسك«   ولذلك فإنّ ذكائهم لم يذهب في اتجاه »معالجة محيطهم« )أوتطويع بيئتهم ( ولكن تم تطوير »ذكائهم الداخلي« وهذا هو السبب في أنّ ثقافتهم مختلفة تماما عن عالمنا وبسببه يعتقد العلماء أنّ هناك احتمال كبير أن للدلافين ذكاء يساوي على الأقل ذكاءنا نحن البشر حتى ولو كان في اتجاه آخر. و يبقى الحجم الحقيقي لذكاء الدّلافين مجهولا بمعنى أنّنا تطوّرنا بمرّ العصور للحفاظ على سلالتنا على الأرض بينما تطوّر الدّلفين لكي يعيش في البحر

Article précédentVIDEO أمين الشريف، حياة مكرّسة للدفاع عن الطبيعة
Article suivantZaki Rahmouni entre en grève de la faim