كان المنصف باي و منذ توليه الحكم بتونس قبل الاستقلال صاحب مشروع و مدافعا على القضية الوطنية فكانت من أهم النقاط التي توجه بها الى المستعمر هي تعميم التعليم و اجباريته و تعليم الاناث ايمانا منه بضرورة نشر الوعي في الوسط الشعبي , و ايمانا منه بأهمية المرأة في المجتمع , فشيدت أول مدرسة للإناث « بالسراجين « سنة 1947 و سميت بمدرسة « البنت المسلمة » و تم سنة 1953 انشاء فرع التعليم الزيتوني للإناث بتونس
تواصل رهان الدولة التونسية بعد الاستقلال على أهم ثروة تمتلكها ,و هي الثروة البشرية, باعتبارها « أهم رأسمال » يمكن الاستثمار فيه , فكانت أولى خطوات الجمهورية الأولى إقرار تعميم التعليم و تقنينه و اجباريته للإناث و الذكور على حد السواء و الى حدود سن 16 سنة , هكذا تعاملت الدولة التونسية مع المرحلة الجديدة بعد الاستقلال و هكذا دخلت مرحلة بناء الدولة
و مع مرور الزمن و الدخول في العهد النوفمبري أصبح التعليم على الهامش و انتهجت الدولة « سياسة التحمير » عوضا عن سياسة التعليم و التثقيف في خطوة كبيرة نحو خوصصة التعليم و تهميش التعليم العمومي , فكانت الأجيال المتتالية في تلك الفترة عارية الفكر و الثقافة ,عدا القلة القليلة التي لم تتجاهل المعركة الأساسية و اعتبرت التعليم خلاصها الوحيد من القمع و الاستبداد و الفقر و التهميش
تواصلت هذه السياسات بعد 14 جانفي و تدهورت أوضاع التعليم و المربين أكثر فأكثر , و أصبح التلميذ التونسي عبئا على الدولة و على العائلة من حيث المصاريف و من حيث القدرة على التعلم.و في كل سنة تتفاقم مثل هذه السياسات التهميشية للقطاع فميزانية وزارة التربية و التعليم لسنة 2021 لا تتجاوز 6782 مليون دينار يذهب أغلبها الى سداد الأجور
تدهور البنية التحتية للمدارس بالعاصمة و تونس الكبرى
تونس الكبرى ,واجهة البلاد و مركز السلطة سياسيا و اقتصاديا ,ولكن اذا ما التفت الى حال مدارسها و نظرت الى جدرانها و قاعتها لأعتبرها مدارس في احدى الولايات الداخلية للبلاد
مدرسة نهج قليبية بباب الخضراء- العاصمة -تونس ,مدرسة ابتدائية لا تبعد عن مقر وزارة التربية سوى كلم واحد أو حتى أقل , تعاني هذه المدرسة منذ سنوات من تدهور حالة السقف و الجدران الايلة للسقوط و النوافذ المهمشة و التي يتسرب منها البرد لأطفال لم يتجاوزوا 12 سنة ,مدرسة تكاد تكون خالية من كل أساسيات السلامة الصحية للتلميذ و المربي على حد السواء
و في ظل غياب تام لدور الدولة في اصلاح و ترميم هذه المدرسة و إعادة احيائها ,تتالت مقترحات رجال الأعمال و بعض الشخصيات المعروفة في الترميم و التحسين و صادف أن زار البعض منهم هذه المدرسة و عاين الوضع الذي هي عليه و لكن بلا جدوى فكلها كانت مجرد خطابات و ووعود بالية لا تختلف كثيرا عن تلك التي تصرح بها الدولة . هذه المدرسة اليوم تشهد حملة تطوعية لبعض من الاولياء و المربين الذين تجندوا لترميم بعضها و تبرع البعض الاخر ببعض من الكتب و الألعاب لتلاميذ المدرسة علهم يصلحون ما لم تقدر الدولة على إصلاحه
مدرسة نهج قليبية ليست الوحيدة في العاصمة التي تشكو من انهيار تام في البنية التحتية ,فمعهد نهج الباشا و الذي يبعد أمتار قليلة عن مقر رئاسة الحكومة و وزارة التربية يعاني من تدهور تام في حالة الأقسام و الجدران , مما استوجب هذه السنة التدخل الفوري لإصلاحه و إعادة البناء من جديد , و لكن لسائل أن يسأل لما تنطلق الأشغال مع بداية السنة الدراسية ؟ و لماذا لم تستغل الإدارة العطلة الصيفية في الترميم و الإصلاح ؟ و كيف سيتم التعامل مع عدد التلاميذ داخل الأقسام في ظل انتشار جائحة كورونا و وجوب اتباع البرتوكول الصحي ؟ بعيدا عن هذه الحالات الغير معزولة للمدارس و المعاهد فان تونس و ان غابت عنها أجهزة الدولة و تخلت عن مهامها ,فهي تزخر بالحرائر و الأحرار الذين يرون في التعليم المخرج الوحيد من عتمة الجهل و الظلام , و لعل الممثل القدير رؤوف بن عمرأحسن مثال على حيث أقدم منذ فترة على إصلاح « المدرسة الابتدائية بمنطقة البياضة من معتمدية غار دماء ولاية جندوبة « .مجهود يذكر فيشكر لأحد رجال البلاد الذين يؤمنون بالحق في التعليم
نقص في العملة و الأعوان التربوين
ارتفاع كبير في نسبة البطالة يقابله نقص كبير في الأعوان و الموظفين في كل القطاعات , الا أن قطاع التعليم يشهد نقصا كارثي في عدد الأعوان و القيميين و المسؤولين التربويين , نقص وصل الى حد 3500 عامل حسب تصريح وزير التربية في جلسة استماع سابقة في مجلس نواب الشعب و وفقا لما نقله موقع الإذاعة الوطنية ,هذا النقص يقابله عجز الوزارة على الانتداب لاكثر من 500 عامل نظرا للعجز المادي للوزارة و ضعف الميزانية المرصودة لها أمام كثرة الالتزامات
لا تشتكي وزارة التربية من نقص في العملة و الموظفين فقط بل كذلك تشهد نقصا في عدد الأساتذة و المعلمين مما استوجب هذه السنة فتح باب النيابات من جديد و انتداب الأساتذة عن طريق هذه الالية , و هي الية برهنت فشلها حينما لم تقدر الوزارة على انتداب الأساتذة بصفة رسمية و لم تقدم لهم مستحقاتهم المالية , و هي مسؤولية لا تتحملها الوزارة بمفردها انما أيضا هي نتيجة لتلاعب العديد من النافذين في القطاع بهذا الملف
سياسة تعليمية هشة
حوالي 36 ساعة دراسة في الأسبوع , هكذا يتلقى التلميذ التونسي المعلومات و الحصص التعليمية بالمدرسة , يعتبر هذا العدد من الساعات الأعلى على مستوى عالمي و هي طريقة بيداغوجية غير محبذة تجعل من التلميذ عاجزا عن الفصل بين ضرورة ال حفظ و استيعاب كل المعلومات وضرورة التعلم بالشكل السليم ,في المقابل فإن المدة الدراسية سنويا تعتبر قليلة مقارنة بماهو معمول به عالميا
أما فيما يتعلق بالمناهج التعليمية و السياسات المتبعة في ذلك فان تونس و منذ العهد النوفمبري قد خضعت لعديد الإصلاحات التعليمية و التربوية التي أثبتت فشلها كل هذه السنوات و لم تتمكن من العودة الى العصر الذهبي للتعليم في تونس, بل أنها عمقت الأزمة و زادت من نسبة الانقطاع الدراسي لدى التلاميذ , فسياسة التعليم في تونس و منذ تولي بن علي الحكم أصبحت ترتكز أساسا على تقبل المعلومة كما هي و إعادة نقلها على ورقة الامتحان في تطبيق حرفي لعبارة « بضاعتكم ردت إليكم » و هي سياسة انتهجها النظام البائد للحد من الوعي التلمذي و الطلابي و لخلق فئة من الشباب لا تسعى نحو المعرفة و التفكير انما تسعى و تعمل فقط على الارتقاء من سنة دراسية الى أخرى ,و هي سياسة لم تستغن عنها حركة النهضة منذ توليها الحكم بل انها و في كثير من المراحل عملت على تعميق هذه الأزمة و في فترة ليست بالبعيدة جدا قامت حكومة المشيشي بإلغاء أهم المناهج لسنوات البكالوريا بتعلة جائحة كورونا و عدم القدرة على استكمال البرامج كلها , و مثالنا في هذا حذف الوزارة لمحور « المعري » لتلامذة الباكالوريا آداب و ما هذا الا اسقاط للفكر التكفيري و الرجعي لحركة النهضة على المناهج التعليمية
في ظل تعدد كل هذه الازمات و استمرار الدولة في التنصل من مهامها و تهميش التعليم و الطفل و إخراجه من حلقة المجتمع يبقى المجتمع المدني بمكوناته أفرادا و جمعيات السد المنيع أمام كل السياسات الفاشلة
انتصار قصارة